الإعلام خلال الحرب: تحديات ودروس في تعزيز الوحدة
في زمن الحروب والنزاعات، يتحوّل الإعلام إلى ساحة معركة موازية، ليس فقط لنقل الأخبار، بل لصناعة الرأي العام، وتوجيه مشاعر الناس نحو الوحدة أو الانقسام. وفي بلد كلبنان، حيث التعددية السياسية والطائفية حاضرة في كل تفصيل، تزداد مسؤولية الإعلام وتتعقّد، وتطفو التحديات إلى السطح مع كل أزمة جديدة.
منذ الثامن من تشرين الأول 2023، وحتى نهاية الحرب الإسرائيلية على لبنان في أواخر أيلول 2024، وجد الإعلام اللبناني نفسه أمام اختبار حقيقي، وسط توسّع رقعة الاشتباكات داخليًا، وتنوّع السرديات السياسية والمناطقية. هذا الواقع كشف بوضوح عن حجم التحديات التي تواجه الصحافة اللبنانية، لكنه أضاء أيضًا على تجارب ميدانية وإنسانية مشرقة، شكّلت فسحة أمل وسط العتمة.
تحديات الإعلام في بيئة منقسمة
يرى عميد كلية الإعلام والتوثيق في الجامعة اللبنانية سابقًا، الدكتور جورج صدقة، أن المشكلة البنيوية التي تواجه الإعلام في لبنان تكمن في كونه غالبًا ما يكون "ناطقًا باسم الأفرقاء السياسيين". هذا التموضع، بحسب صدقة، يُفقد الصحافة دورها كمساحة للنقاش الموضوعي، ويجعلها أداة لتأجيج الخلافات بدل المساهمة في حلّها.
ويضيف: "غياب رؤية وطنية جامعة، وتحوّل وسائل الإعلام إلى منصات تعكس الانقسام السياسي، يجعل من الصعب على أي وسيلة أن تقوم بدور توفيقي أو أن تعزز خطابًا جامعًا". من هنا، يشدد صدقة على أهمية تعزيز الإعلام العام ليكون ناطقًا باسم الدولة ومعبّرًا عن قضايا وطنية جامعة، بعيدًا عن الاصطفافات.
تجربة ميدانية وسط الحرب: روايات الوحدة في زمن الانقسام
رغم هذا المشهد المعقّد، ظهرت نماذج إعلامية استطاعت الخروج من الاصطفاف، والالتزام بنقل الحقيقة من زاوية إنسانية.
هنا، أروي تجربتي كمراسلة ميدانية خلال الحرب الأخيرة والتي تكشف عن مدى إمكانية صناعة إعلام مختلف، حتى وسط الانقسام.
إذ و"في تغطية لإحدى القصص من منطقة دير الأحمر، البلدة المسيحية ذات الأغلبية الموالية لحزب القوات اللبنانية، برز مشهد فريد، إذ فتح الأهالي بيوتهم وكنائسهم ومدارسهم لاستقبال آلاف النازحين من بعلبك، المدينة ذات الغالبية الشيعية. المشهد لم يكن عاديًا في بلد يعاني من حساسيات طائفية متجذّرة. لحظة نزوح جماعي جمعت الناس على الإنسانية، لا على الخلفيات السياسية".
مشهدٌ مؤثرٌ نقلته حينها، عائلاتٌ هَجَرت منازلها بسبب القصف، لتبحث عن مأوى، ووجدت في أهالي دير الأحمر إخوة لهم، لا يسألون عن الهوية أو الخلفية، بل يركزون فقط على تقديم العون والمساعدة.
ما يمكن قوله خلال التجربة وجزمه، أن المسؤولية مضاعفة لأن الإعلام غالبًا ما يسلط الضوء على الانقسامات السياسية والدينية. لكن من خلال تقارير ميدانية، نقلت قصصهم وحرصت على إبراز كيف أن الأزمة كشفت عن روابط خفية بين اللبنانيين، تتوارى في زمن السلم تحت حجة الخطاب الطائفي والسياسي.
بالإضافة إلى هذه التجربة، تمّ تسليط الضوء، من خلال تقارير ميدانية، على مبادرات محلية: توزيع حصص غذائية، توفير مازوت للتدفئة، فتح بيوت الضيافة والفنادق، وتقديم الدعم النفسي والمعنوي للمهجرين. في هذه التغطية، لم يكن التركيز على الانقسام، بل على الروابط المخفيّة بين اللبنانيين، تلك التي تُطمس في زمن السلم تحت وطأة الخطاب التحريضي.
الإعلام كأداة تعزيز للسلم الأهلي
المحامي طوني مخايل يرى أن الإعلام، رغم التحديات، يمكن أن يكون شريكًا حقيقيًا في تعزيز السلم الأهلي إذا التزم بالحياد والموضوعية. ويقول: "الإعلام المهني يساهم في التخفيف من حدة الانقسامات من خلال دوره في نقل المعلومات الدقيقة، ومكافحة الشائعات، وتشجيع الحوار، وتسليط الضوء على قصص الشجاعة والتضامن".
ويُضيف أن الإعلام اللبناني، خلال الحرب الأخيرة، أظهر في بعض محطاته دورًا إيجابيًا من خلال الترويج للمبادرات المجتمعية، ومراقبة أداء الحكومة، والحد من التحريض الذي قد يشعل فتيل الفتن الداخلية.
وبحسب مخايل، من خلال هذا الدور الايجابي المفترض ساهم الاعلام اللبناني بشكل عام في الحد من اثار العدوان الإسرائيلي على الانقسام داخل المجتمع انطلاقا من مسؤوليته المجتمعية ومن خلال السعي الى:
- توفير المعلومات الدقيقة قدر الامكان وعدم اطلاق او تبني الشائعات والمعلومات المغلوطة.
- تشجيع الحوار والاستماع وعرض مختلف وجهات النظر بين مختلف الفئات.
- توجيه الرسائل الايجابية من خلال تغطية قصص الشجاعة والتضامن بين اللبنانيين والترويج لمبادرات الإنسانية لمساعدة المتضررين وتعزيز التعاون بين افراد المجتمع والشعور بالوحدة الوطنية.
- مراقبة ومساءلة أداء الحكومة والجهات المعنية خلال الازمة.
لكن في المقابل، يؤكد مخايل أن الصحافيين يواجهون ضغوطًا كبيرة، أبرزها حملات التخوين على وسائل التواصل، وتهديدات مباشرة بالقتل أو الإيذاء، ما يقيّد حريتهم في العمل، ويحد من قدرتهم على نقل الروايات المخالفة للسردية المهيمنة.
نموذج دير الأحمر: تغطية إعلامية تصنع فارقا
أما رئيس اتحاد بلديات دير الأحمر، جان فخري، فيشير في حديث خاص الى أن للإعلام دورًا أساسيًا في التخفيف من حدة الانقسامات من خلال مقاربته الإنسانية، خصوصًا في الأزمات الكبرى حيث يؤدي تسليط الضوء على هذه القضايا إلى تعزيز الوعي المجتمعي بالجانب الإنساني للخسائر الناتجة عنها.
ويشير فخري إلى أن دير الأحمر استقبلت أكثر من ٢٥ ألف نازح من بعلبك، لافتًا إلى أن الإعلام تعامل مع هذه القضية بمهنية وموضوعية، مسلطًا الضوء على الشق الإنساني والتنظيمي للأزمة.
ويضيف أن التغطية الإعلامية ساعدت، بشكل مباشر أو غير مباشر، في إبراز جهود إدارة الأزمة، سواء عبر عمل الشرطة الاتحادية والبلدية أو من خلال إيصال الرسائل اللازمة للمجتمع. ونتيجة لهذه التغطية الإيجابية، لم تُسجَّل أي مشكلات في مراكز الإيواء والمنازل التي استقبلت النازحين في دير الأحمر.
ويشدد فخري على أن الإعلام لم يكتفِ بعرض الواقع، بل ساهم أيضًا في تحفيز كل من النازحين والمجتمعات المضيفة عبر إبراز المبادرات الإيجابية، وصولًا إلى تسليط الضوء على الدورات التوعوية للمقيمين في المنطقة. كذلك، كان للتغطية الإعلامية تأثير ملموس في تعزيز المساعدات، حيث أدى تسليط الضوء على توزيع الوجبات الغذائية والمساعدات، إلى زيادة التقديمات والهبات من جمعيات أخرى دعمت المنطقة.
الإعلام في الميزان: بين الانقسام والوحدة
ما كشفته الحرب الأخيرة، هو أن الإعلام في لبنان يعيش تناقضًا دائمًا: من جهة، واقع مؤسساتي منقسم يُغذّيه التمويل السياسي، ومن جهة أخرى، صحافيون على الأرض يسعون لصناعة تغطية إنسانية، موضوعية، ومتزنة.
في النتيجة، يتبين أن مسؤولية الإعلام تتضاعف في الأزمات. فإما أن يكون أداة لتعميق الانقسام، أو مساحة جامعة تعكس الحقيقة دون تحريف، وتُسلّط الضوء على المبادرات التي تستحق الانتشار.
إن تعميم النماذج الإيجابية، كالتجربة الإعلامية التي غطّت تضامن دير الأحمر مع بعلبك، هو السبيل نحو إعلام لبناني مسؤول، يُعيد ترتيب الأولويات، ويجعل من القصص الإنسانية مرآة تعكس وحدة خفية، يمكن البناء عليها لبناء وطن أكثر تماسكًا وإنسانية.
تم إعداد هذا التقرير ضمن مشروع "إصلاح الإعلام وتعزيز حرية التعبير في لبنان" .
موّل الاتحاد الأوروبي هذا التقرير، وتقع المسؤولية عن محتواه حصرًا على عاتق ”مؤسسة مهارات“ وهو لا يعكس بالضرورة آراء الاتحاد الأوروبي.
This report was produced within the project "Media Reform to Enhance Freedom of Expression in Lebanon"
This report was funded by the European Union. Its contents are the sole responsibility of Maharat Foundation and do not necessarily re
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|